في المغرب.. الذكاء الاصطناعي بين الاستعراض الإعلامي والواقع المرير القادم

ماي 25, 2025 - 14:54
 0
.
في المغرب.. الذكاء الاصطناعي بين الاستعراض الإعلامي والواقع المرير القادم

بنعزوز عبد الغني

كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن الذكاء الاصطناعي في المغرب، وازدحمت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بصور الماكيتات والاستراتيجيات والخطط الطموحة التي تعد بمستقبل رقمي مزدهر. كلمات براقة من قبيل: «ينبغي أن نفعل» و«سوف نفعَل»، صارت تتردد على ألسن المسؤولين دون أن تتحقق فعلياً على أرض الواقع، في حين يستمر هدر المليارات من المال العام دون تحقيق نتائج ملموسة تذكر.

أقول وبكل مسؤولية إن المشكلة الحقيقية تكمن في الفجوة الواسعة بين من يتحدث عن الذكاء الاصطناعي وبين من يستطيع فعلاً تحقيق إنجازات حقيقية فيه. حالياً، توجد شركة واحدة فقط بالمغرب قادرة على تطوير "وكلاء ذكاء اصطناعي" متخصصين وعامّين في وقت قياسي وبمستوى عالٍ من الأداء والتنافسية العالمية. بكل تواضع، أعلن أن الفريق الذي أعمل معه هو الوحيد القادر فعلياً على القيام بذلك. هذا ليس غرورًا، بل حقيقة مبنية على أرقام ونتائج مثبتة، وأتحدى علنًا أن تقدم جهة أخرى نتائج مماثلة في السرعة والجودة والكفاءة.

لكن للأسف الشديد، في السنوات السابقة، تم إهدار أموال ضخمة نتيجةً لاختيار أشخاص لا يملكون من الكفاءة سوى حُسن الحديث و دبلومات، دون أي دراية عميقة بالجانب التقني أو التطبيقي للذكاء الاصطناعي. هؤلاء الأشخاص كانوا سبباً في تباطؤ تقدم المغرب في هذا المجال الحيوي. وبسبب هذه الخيارات الخاطئة، لم تستطع البلاد مواكبة التحولات الرقمية العالمية التي أصبحت واقعًا مفروضًا لا مفر منه.

الأخطر من ذلك، أن العالم يتجه بسرعة فائقة نحو استبدال العنصر البشري بالذكاء الاصطناعي في قطاعات عديدة، أبرزها قطاع مراكز النداء (Centre d'appel)، الذي يشغل اليوم آلاف الشباب المغاربة. ما يقارب 90% من هذه الوظائف مرتبطة بالسوق العالمية، التي بدأت بالفعل تستغني تدريجياً عن العنصر البشري، وتعوضه بوكلاء ذكاء اصطناعي يتميزون بالكفاءة العالية، والتوفر على مدار الساعة دون أي إجازات أو أخطاء بشرية، وبتكلفة أقل بكثير.

شركات عالمية كبرى مثل «أمازون»، «غوغل»، و«مايكروسوفت» بدأت بالفعل في التحول نحو أنظمة الذكاء الاصطناعي، مثل GPT وGemini وClaude وغيرها، والتي بإمكانها التعامل مع مكالمات الزبائن والشكاوى بشكل أكثر دقة وفعالية من البشر. هذا التحول العالمي يعني حرفياً أن سوق مراكز النداء التقليدية التي تحتضن اليوم آلاف الشباب المغاربة، سوف تنهار بشكل شبه كلي خلال السنتين القادمتين.

ليست مراكز النداء وحدها من ستتأثر، بل قطاعات أخرى عديدة معرضة للخطر المباشر، مثل قطاع الترجمة الآلية، إدخال ومعالجة البيانات، خدمات الدعم الفني والتقني عن بُعد، وبعض الخدمات البنكية والتأمينية والمالية. هذه القطاعات تشغل اليوم أعدادًا كبيرة من القوى العاملة المغربية، وجميعها مهددة بالزوال أو التراجع الشديد مع نضج استخدامات الذكاء الاصطناعي.

لهذا السبب تحديدًا، من الآن وحتى عام 2028، أتوقع أن يفقد المغرب ما لا يقل عن تسعين ألف وظيفة، وهو رقم واقعي وليس من باب المبالغة. هذا التسريح الكبير سيسفر حتمًا عن موجات احتجاج جماهيرية ضخمة وغير مسبوقة، إن لم تتخذ الدولة الآن، وليس غدًا، استراتيجيات حقيقية تواكب جدية المرحلة وتؤهل المواطنين وتعيد تأهيلهم بشكل صحيح لمهن المستقبل.

الحل واضح ومعروف: بدلاً من الاعتماد على أشخاص يبرعون فقط في التواصل الإعلامي والكلام و ياريت لو كانوا يفعلوا، يجب تمكين من لهم دراية تقنية حقيقية، وإعطاؤهم الفرصة والوسائل والدعم اللازم. لا تزال الفرصة قائمة، ولكن الوقت بدأ بالنفاد. إن لم نتحرك اليوم، فسنكون بعد سنتين فقط في مواجهة أزمة اقتصادية واجتماعية كارثية، لن يكفيها حينذاك سوى الحديث عن «ماذا لو» و«لو أننا فعلنا».

هذه مسؤولية تاريخية، وعلينا جميعًا أن نتحرك قبل أن يصبح الواقع المرير حتميًا لا يمكن تفاديه.